أما الحكمة العظمى فهي من كتاب الله العزيز .
و إذا جائكم فاسق بنبإ فتبينوا ...
جاء في السنة ما يوضّح فضل هذا الستر ، فعن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من ستر عورة أخيه المسلم ستر الله عورته يوم القيامة ) رواه ابن ماجة ، في حين أن تتبع الزلات مما يأنف منه الطبع ، وينهى عنه الشرع ، بل جاء في حقه وعيد شديد ، روى الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر ، فنادى بصوت رفيع فقال : ( يا معشر من قد أسلم بلسانه ، ولم يفض الإيمان إلى قلبه ، لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم ، ولا تتبعوا عوراتهم ، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته ، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله ) .
ولنعلم أن الأصل هو الستر على المسلم إذا وقع في معصية لعموم قوله : ((من ستر مسلما ستره الله في الدنيا و الآخرة)) [3]. ولقوله عليه الصلاة والسلام لمن جاء إليه بصاحب معصية: ((لو سترته بثوبك كان خيرا لك))4. ولكن هذا في غير من عرف بالأذى والفساد ومعاودة المنكرات، فإن الستر على مثله يطمعه في الإيذاء والفساد وانتهاك الحرمات.
قال رسول الله: ( إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار! ) صحيح مسلم (2581)
يقول ابن عثيمين
هذا الذي يغتاب عباد الله أكبر همه في المجالس أن يعترض ويعرض عيوب الناس وُكل بنشر هذه المعايب وُكل بتتبع عورات المسلمين ، وليعلم هذا المسكين أن من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته ومن تتبع الله عورته فضحه ولو في جوف بيته ، وليعلم أن من تسلط على نشر عيوب الناس وتتبع عوراتهم سلط الله عليه من ينشر عيوبه ويتتبع عورته ، وهذا القائل الذي ينشر عيوب الناس لو فتش في نفسه لوجد نفسه اكثر الناس عيوبا وأسوأهم أخلاقا وأضعفهم أمانة ، ولو لم يكن من عيوبه إلا تسليط لسانه على عباد الله لكان كافيا ، إن هذا الرجل المسلط على عباد الله لمشؤوم على نفسه مشؤوم على جلسائه . أما كونه مشؤوما على نفسه فإنه قادها إلى الشر والبغي ، وأما كونه مشؤوم على جلسائه فلأن جلسائه إذا لم ينهوه عن فعله صاروا شركاء له في الإثم .
فاتق الله أيها المسلم فلقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم " مر بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم
فقال: يا جبريل من هؤلاء قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم ".وأكثر الناس اليوم يقولون في إخوانهم ما لا يعلمون لو سألته فقلت له أتشهد عليه بما قلت لقال : لا أشهد ، ومن المعلوم أنه سوف يسأل عن ذلك يوم القيامة ،أفلا يتقي الله هذا ، أفلا يعلم أنه ما يلفظ من قول لا لديه رقيب عتيد ،
أفلا يعلم أنه يحاسب عن كل كلمة قالها .
وقفة
قال سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴿6﴾
ثم قال سبحانه : ﴿ إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ ﴾ النبأ : هو الخبر, فإذا جاءنا فاسق بنبأ ماذا نفعل؟
قال سبحانه: ﴿ فَتَبَيَّنُوا ﴾ بين الله وجوب التبيُّن من الأخبار حال ورودها من الفاسق وذلك لأن الأحوال إما قبول الخبر, أو رد الخبر, أو التثبت فيه ، هذه هي الأحوال الثلاثة بالنسبة للإنسان إذا جاءته أخبار , هذا تأديب من الله لعباده إذا جاءهم خبر من الفاسق بأن لا يتسرعوا ولكن يتسرعوا في ماذا ؟ يتبادر إلى ذهن كثير من الناس أن لا يتسرعوا في قبوله , نقول ليس هذا فقط بل لا يتسرعوا في قبوله ولا في رده أيضاً يعني لا تصدق ولا تكذب لأنك إن صدقت فقد يكون الخبر كاذباً وإن رددت فقد يكون الخبر صادقاً , فانظر إلى تأديب الله لعباده . وفي قراءة أخرى: ﴿ إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَثَبَّتوا﴾ والمعنى واحد أي تثبتوا من الخبر . ولكن لماذا نتثبت في خبره قال سبحانه : ﴿ أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴿6﴾ أي أمرناكم أن تتثبتوا في خبر الفاسق حتى لا تصيبوا قوماً وأنتم تجهلون أحوالهم فيقع ما يقع نتيجة هذا التسرع فتصبحوا في حسرة وندامة على تعجلكم في هذا الأمر.
فحينئذ هذا الأدب لابد أن يلتزم به الإنسان وألاّ يتسرع في قبول الأخبار , وإذا نظرنا إلى أحوال الناس اليوم وجدنا الكثير منهم يطير بالخبر من أي إنسان فتراه يقول فيه كذا وكذا فيأخذ الخبر على محمل الجد وعلى أنه صدق ثم يزداد الأمر سوءاً إذا قـام الإنسان بنشر خبـر الفاسـق , فقد تندم إذا عملت بخبـر الفاسـق